" الأمر بالتوحيد في القرآن فقط بتوحيد الإلهية "
الجمعة 25 - 11 - 2016
للدكتور / سيد العربي...
إن الحَمْدَ للهِ، نحْمَدُه، وَنسْتَعِينه، ونَسْتَغْفِره، ونَعُوذ باللهِ تَعالَى مِنْ شُرُوِرِ أنفُسِنا، ومِنْ سَيٍئات أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَهُوَ المُهْتَد، ومَنْ يُضْلِل فَلَنْ تَجِدَ له وَلِيًا مُرْشِدًا، وأَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شَرَيك له، وأشْهَدُ أنْ مُحَمدًا عَبَدَهُ، وَرَسوله، وصَفَيه مِنْ خَلْقِه، وخَلِيلُه، صَلَوات اللهِ وسَلامُه عَلَيْه، وعلى مًنْ تَبِعَ هُداه بِإحْسانٍ إلى يَوْمِ الًدِين.
{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأنتم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أيها النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ أن اللَّهَ كان عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أيها الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
وبعد؛
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلامُ اللهِ تعالى، وإنَّ خيرَ الهَديِ هَدْيُ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم, وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بِدعة، وكلَّ بِدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النّار...
اما بعد:
لا زال الكلام مستمرٌ في قضيةِ الوجود، التي ما خَلَقَ الله الخلق إلا لأجلها(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبدُونِ) [الذاريات:56] وهي قضية التوحيد، قضية الإيمان، قضية العبودية، ولا بد أن نعلم أن عبودية بلا توحيد كصلاة بلا طهارة، فلابد لكل عبدٍ أن يبحث في نفسه عن هذه القضية، فإن كانت مُقامة، فليحافظ عليها ما أحيياه الله حتى يلقى الله عليها، وإن كانت مفقودة فليجاهد عُمُرَه، وليجاهد بكل ما أوتي من جُهْد، من باب (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ...) [الحج:78] .. حتى يُحَصٍِّل تلك القضية، فإن هذه القضية إذا فقدها العبد، مهمًا صلى وصام، وزعم أنه مؤمن، فإنه لا دين له، فإن حصلها فهو صاحب دين .. قل أو كثر .. لأنه أقام الأصل (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبدُونِ) وأصلها إلا ليعبدوني وجزمت، إلا ليوحدوني، إلا ليفردوني ربًا وإلهًا، وعرفنا أن هذه القضية تشتمل على ثلاثة مسائل كما سماها العلماء: أنواع التوحيد:
توحيد الربوبية أو توحيد الله في ربوبيته: وإن توحيد الله في ربوبيته إنما يحققه العبد ليصل به إلى توحيد الله في إلهيته.. توحيد الله في أسمائه وصفاته: وتوحيد الله في أسمائه وصفاته، إنما يحققه العبد ليصل به، إلى توحيد الإلهية.. وتوحيد الله في إلهيته...
فما عرفنا أن ربنا هو الذي خلق، إلا من أجل أن نطيع أمره، من خلال إيماننا أنه يملك أمرنا، وعندما نعلم أن الله هو الذي يرزق (إنَّ اللهَ هوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:58] .. فنؤمن بذلك له وحده، فهذا يَؤزُنا الى أن نسأل الله الرزق، وإذا أمنا بأن القضاء والقدر بيده وحده، عرفنا بأن العبد لا يغالي في الأسباب ظنًا منه بأن ذلك يغير المقادير، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ومعنى العلم بأن الشفاء بيد الله ربوبية .. جره ذلك حتمًا إلى أن لا يطمع في الشفاء إلا من عند الله عز وجل(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)[الشعراء:80] فيجره ذلك إلى الافتقار إليه، والتذلل بين يديه، وسؤال الشفاء إيمانًا منه بأنه لا يملكه إلا الله سبحانه(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) .. وذلك كله في كل مقامات الربوبية، فالعلم بالربوبية خادم لتحقيق الإلهية، والعلم بالأسماء والصفات خادم لتحقيق الإلهية، بمعنى أنك مطالب بأن تأله ربك وحده، فتجعله المطاع وحده، فتجعله المخاف منه وحده، فتجعله المحبوب وحده، فتجعله المرجو وحده، فتجعله المأمول الذي لا يؤمل إلا فيه وفيما عنده، فتجعله المتوكل عليه وحده، فتجعله المعتمد عليه في القلب وحده، فلا يطمع إلا فيما عنده، ولا يخاف إلا منه وحده، لأنه هو الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يفقد ويمنح سبحانه وتعالى..
وبالتالي فالعبد يؤمن بأن الله ربًا وحده، ويؤمن بما له من أسماء وصفات وحدة، ليقوده ذلك إلى إفراد الله بكونه إلهًا وحده لماذا؟ لأن المراد الأصلي.. والمطلوب الأصلي هو إفراد الله إلهًا، إفراد الله معبودًا، إفراد الله محبوبًا، إفراد الله مخافًا منه، خوف السر، والخوف على الأرزاق، والخوف على الآجال، والخوف من كل ضار، والأمل في النفع منه، فلا تفريج للكرب إلا منه، ولا يملك المقادير إلا هو، ولا يملك الآجال إلا هو، ولا يملك الضر والنفع إلا هو، لأنه يملك الموت والحياة (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور) [الملك:2] ويملك النشور (هوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الملك:15] .. والعطاء والمنع، فعندما ينجزم ذلك في قلب العبد، فذلك يجره إلى المطلوب...
وهنا مسألة هامة جدًا وبديعة غاية الإبداع وهي: أننا لم نجد في القرآن أمرًا، يأمرنا بتوحيد الله في الربوبية، ولم نجد أمرًا بتوحيد الله في الأسماء والصفات، إلا ما كان من أمرنا بأن ندعوه بها(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف:180]- وهو ايضا من الالهية - ولكننا وجدنا الأمر تلو الأمر، مما يتعلق بتوحيد الإلهية، بإفراد الله إلهًا.. تنبه لذلك .. فالقرآن مملوء من أول(إِيَّاكَ نَعْبدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5] إلى (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [النًاس:6].. بالأمر المباشر لهذه القضية، وهي تأليه الله، وهذه القضية التي هي تأليه الله، جاءت بلفظ "اعبدوا"..(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا...)[النحل:36].. أوجاءت بلفظ(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:21]هذا أمر بصيغة أمر، فنجد قول الله (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه:14] .. ونجد قول الله تعالى (قُلْ إِنّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) [الزمر:11] .. ونجد سيرة الأنبياء عليهم السلام جميعًا فقال نوح عليه السلام..(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأعراف:59] .. وقال هود عليه السلام(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ) [الأعراف:56].. انظر إلى اعبدوا , فهذا أمر، فلم نجد في القرآن وحدوا الله ربًا، إنما وجدنا اعبدوا، لأن هذه هي القضية المقصودة، ما عَرًفَنا اللهُ بنفسه، وما أعلمنا بأسمائه وصفاته، وما أعلمنا بأفعاله، بأنه خلق وزرأ وبرأ، وأنه خلق الليل والنهار، (وَهوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء:33].. وأنه سخرهما (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[الأعراف:54].. وجعل هذا يلج فى هذا، وهذا يلج في هذا(يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) [سبأ:2] وجعل الشمس والقمر، وجعل البحار وسخر ما فيها، ورزقنا من الأنعام، وأخرج لنا من البحار(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:14] .. وأنه، وأنه، وأنه جل شأنه، وتبارك اسمه، وتعالى جده لماذا؟؟ .. حتى تجتمع تلك المعاني في القلوب توحيدًا وإفرادًا، فتدفعنا دفعًا لتحقيق المطلوب وهو(فارسلنا فيهم رسولا منهم ان اعبدوا الله ما لكم من اله غيره افلا تتقون) [المؤمنون:32]..
وسيكون هنا سؤال ما معنى اعبدوا الله؟؟ ومعنى اعبدوا له مقالات ستأتي إن شاء الله تعالى، لكن أريدك أن تتفهم تلك المسألة البديعة، أن الأمر المباشر، وأن الأمر الذي بصيغة الأمر، جاء في هذا هو المقصود، بمعنى .. تعلموا الربوبية وتعلموا الأسماء والصفات، ليكون ذلك حاديًا لكم، وسائقًا يسوقكم إلى ماذا؟ يسوقكم إلى( أَنِ اعْبدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ...) [المائدة:117] .. فما من نبي عليهم السلام إلا وقال لقومه، فنوح عليه السلام قال لقومه، (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).. وهود عليه السلام، (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ).. وصالح عليه السلام قال(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ...)[هود:61] وشعيب عليه السلام قال لقومه(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ...)[هود:84].. وجاءت الأوامر وأعلم الله الدنيا، وأعلم الله عباده(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كلِّ أُمةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).. فليس فقط هؤلاء الرسل المذكورون، بل في كل أمة بعث الله رسولًا، فما هي قضيته؟ وما هي وظيفته؟ وما هي القضية التي ينبغي الإعلام بها؟( أَنِ اُعْبدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) وقوله تعالى(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:25]
إذًاً توحيد الإلهية، قد يغفل كثيرًا منا عنه وهو المقصود، وما ذكر العلماء، وبسطوا المسائل والقول في توحيد الربوبية التي تكلمت فيه في مقامات أخر، وتوحيد الأسماء والصفات التي تُعرف بالرب جل وعلا، حتى ينزله العبد منزلته، ويقدره قدره، ولا يكون كالكافرين الذين اختل عندهم فضيعوا قدر ربهم وضاعوا كما وصفهم ربهم سبحانه(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر:67] .. سبحان ربي جل في علاه، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات:180] ..فإننا عندما نتعلم ما يتعلق بربوبيته، وما يتعلق بأسمائه وصفاته، فإن ذلك يجرنا إلى المقام المطلوب، من إقدار الله قدره، وإنزاله منزلته، فيدفعنا ذلك إلى تحقيق الأمر الجامع، الذي هو الأمر الذي أمر به كل نبي عليه السلام قومه، هو القضية التي قامت فيها الخصومة، والتي هي لا إله إلا الله، أي لا معبود بحق سواه، التي هي لا تأليه حق، التي هي لا تأليه مستحق، التي هي لا تأليه بإفرادٍ .. إلا لله وحده دون ما سواه، فهذا هو الذي ينبغي أن يستوعبه العبد، ويتفهمه، ويستبينه من نفسه..
عباد الله تلك هي قضية الوجود، من أقامها نجا، ومن ضيعها هلك، ومن أتى الله يوم القيامة بزنا، أو بسرقة، أو بغيبة أو بنميمة، أو بعقوق والدين، أو بإساءة لجار، أو بأكل رشوة، فإنه مرجو له النجاة، فإن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له،( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء:48]..إن كان من الموحدين، وإن أتى العبد يوم القيامة بلمم، أو بأشياء قليلة، بأن تعاف نفسه الذنوب، فلا زنا، ولا خمر، ولا ربا، ولا رشوة، ولا سرقة، ولا قتل، ولا ظلم، ولا طغيان، ولكنه أتى الله بغير توحيد فإنه من الهالكين، فهو من الضائعين، فهو مما لا يُرجا له قيام، ولا يُرجا له نجاة ففي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى: "يا ابن آدمَ إنّكَ ما دعوتَني ورجَوْتَني غفرتُ لك َعلى ما كانَ فيكَ ولا أُبَالِي يا ابن آدمَ لو بلغَتْ ذنوبكَ عَنَانَ السماءِ ثم استغفرتَنِي غفرتُ لكَ ولا أبالي يا ابن آدمَ إنك لو أتَيتَنِي بقُرَابِ الأرضِ خطايا ثم لقِيتَنِي لا تُشْرِكْ بي شيئا لأتَيتُكَ بقُرَابِها مغفرةً "..[الترمزي:3540]
ففيك من العيوب ما فيك، وفيك من الذنوب ما فيك، وفيك من الخطايا ما بلغ قرب الأرب من كثرتها.. لَقيَتني: عابدًا موحدًا، موءلهًا لي وحدي محققًا التوحيد، وجاءت في رواية " لقيتك بقرابها مغفرة "...
فإن أتى العبد بغير توحيد، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء:116] .. فالعبد إن استقام على التوحيد وسمى موحدًا، وإن انفلت منه التوحيد وانخرم يسمى مشرك، وهذا بينه وبين ربه، وليس بينه وبين العباد، أي ليست القضية أن يحكم العباد بعضهم على بعض.. فحكم العباد بعضهم على بعض لا يدخل جنة، ولا يدخل نار، فإن حكمت عليك بأنك كافر، فلا يكون ذلك سببًا لنارك، وإن حكمت عليك بأنك مؤمن .. فلن يكون ذلك سببا لجنتك، إنما الحكم لله وحده (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[يوسف:40]، بمعنى: قد يتفاعل النًاس بهذه الأحكام، بناء على أحكام أخر تتركب عليها، وليس هذا محل الكلام فيها، ولكن الذي يهمك هل حققت ما خلقك الله له؟ فأنت في أرض جهل، وأنت في أرض تُغيب للدين، وأرض مطلوب فيها تغيير للخطاب الدعوي، وتغيير للخطاب الديني، فأنت في أرض لا يقوم فيها قائم الدعوة بالبيان، وبالتالي تغيب عنك القضية، وبالتالي قد تغفل عنها، وأن معلمونا لا يعلموننا إياها، فتوجب عليك أن تبحث عنها بذاتك، فإن أتيت ربك يوم القيامة موحدًا، فقد فزت ورب الكعبة مهمًا كان لك من الذنب، وليست هذه دعوة للذنوب، ولا دعوة للتقليل من شأنها ففي الحديث عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم ومحقَّراتِ الذنوبِ فإنَّما مثلُ محقَّراتِ الذنوبِ كمثلِ قومٍ نزلوا بطنَ وادٍ فجاء ذا بعودٍ وذا بعودٍ حتى جمعوا ما أنضجُوا به خبزَهم ، وإنَّ محقَّراتِ الذنوبِ متى يُؤخَذُ بها صاحبُها تُهْلِكُه"[صحيح الجامع:2686]..أي: الذنوب البسيطة التي تحقرونها، فقد تُسَّود صحيفتك، وقد يسود قلبك منها، من كثرة الذنوب فتجد نفسك، مدفوعًا إلى الشرك دون أن تشعر، فإن المعاصي بريد الكفر.. احفظ هذه العبارة كما تحفظ اسمك.. فالرجل الذي يشرب المسكرات بأنواعها، والذي يفحش في القول، والذي يأكل الحرام، فتجد أن أقرب شيء عنده، وأيسر أمر إلى لسانه، سب الله، سب الدين، سب الرسول لماذا؟؟ .. لأن كثرة المعاصي سودت قلبه، وكثرة المعاصي جرأته على ما هو أكبر مما يأتيه، فيقع المسكين بالسب الذي هو كفر بالإجماع، فالمسلمون جميعًا، أي أهل العلم وأهل الإجماع، أجمعوا على أن سب الله سبحانه وتعالى, وسب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسب الكتاب كفرٌ..
معنى هذا الكلام للتعليم، بأنك تفهم فهم اليقين، بأنك إذا أكثرت الذنوب هلكت، فلا يفهم أحدٌ أن دعوة الحرص على التوحيد، والبحث عن تعلمه، انك تنجو مهمًا كان لك من الذنوب، أنها دعوة للذنوب، هيا بنا نذنب ونوحد!! .. لا والف لا .. فإن الذنوب إذا أثقلت عاتقك قسمته .. لماذا؟ لأن كثرة الصغائر توقع في الكبائر، وكثرة الكبائر توقع في الكفر والشرك ففى الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الحَلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحَرامَ بيِّنٌ وبينَهمَا مشْتَبَهَاتٌ لا يعْلَمُهُنَّ كثيرٌ من الناسِ . فمنْ اتَّقَى الشبهَاتِ استَبرَأَ لدينِهِ وعِرضِهِ . ومن وقعَ في الشبهَاتِ وقعَ في الحرامِ . كالراعِي يرعَى حولَ الحِمَى . يوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فيهِ . ألا وإنَّ لكلِ ملِكٍ حِمًى . ألا وإنَّ حِمَى اللهِ محَارِمُهُ . ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَتْ ، فسدَ الجَسدُ كُلُّهُ . ألا وهِيَ القَلبُ "..[مسلم]..
فالله عز وجل جعل الكفر، ذنوب عظيمة تهلك العبد ولا قيام معها، ثم جعل الكبائر ذنوب تأكل الحسنات، كما تأكل النًار الحطب، كثرة الذنوب تسود الصحائف، وتجعل العبد في خطر، ثم جعل الصغائر أقل من ذلك ويرجا معها المغفرة، وإن اجتنب العبد الكبائر، فلعل الله عز وجل يغفر له الصغائر، ثم جعل اللمم الذي لا يخلُ منه عبد، إلا ما كان من الصديقين .. ليكون الأمر في مدار حياتك، حياة العبودية، فأنت لا بد أن تعلم، أن وظيفتك الأصلية التي خلقك الله لها في هذه المعمورة أنك عبد لله ماذا تعمل؟؟ أعمل عبدًا لله سبحانه وتعالى.. حيث أن الله قال(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وما خلقت كآفة الآدميين إلا ليعبدون.. ثم ما هي وظيفتك الثانوية؟ أعمل تاجر، طبيب، مهندس، صانع، أيًا كان العمل، لكن ما هو عملك الأساسي في هذه الدنيا؟ عملي أني عبدً لله.. فإن ضيعتها ضعت، وإن أقمتها نجوت، فجعل الله لمم، ثم صغائر، ثم كبائر، ثم كفر.. وجعل اللمم من حمى الصغائر، فينبغي للإنسان أن يتقيها لئلا يقع في الصغائر، فإن لم يتقيها وقع في الصغائر، ثم جعل الصغائر حمى للكبائر، بحيث الإنسان يتقي كثرة الصغائر، لأن كثرة سَيْره في منطقة الصغائر يوقع قدمه في منطقة الكبائر، ثم على الإنسان أن يتق منقطة الكبائر، بتقوى أعلى وأشدً، لأن قدمه إذا صارت في منطقة الكبائر أوقعته قدمه في منطقة الكفر والشرك والعياذ بالله.. فجعل الله اللمم مغفوراً إذا ما اجتنب العبد الكبائر، وجعل الصغائر يعفو الله عنها إذا ما تحرى العبد البراءة من الكبائر، ثم جعل الكبائر هي حِمىً للكفر، فشدد على العباد أن يجتنبوها، ولكنه لم ييأسهم(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53] ثم أمرهم(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [الزمر:54] .. أي أن المطلوب إذا اقتحم العبد الكبائر فعليه أن يتوب، لعل الله يتوب عليه من الوقوع فى حمى الكبائر من الصغائر، فأما إذا لم يتب واستمرأ الكبائر، أخذته قدمه إلى منطقة الكفر والشرك..(اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة:72] ... أسأل الله عز وجل أن لا يحرم علينا وعليكم الجنة، وأن يجعلني وإياكم من الموحدين...
ــــــــــــ
الحَمْدُ للهِ وكَفَىَ وسَلامٌ عَلى عِبادِه الذِين اصْطَفَى، وأَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شَرَيك له، وأشْهَدُ أنْ مُحَمدًا عَبَدَهُ، وَرَسوله، وصَفَيه مِنْ خَلْقِه، وخَلِيلُه، صَلَوات اللهِ وسَلامُه عَلَيْه، وعلى مًنْ تَبِعَ هُداه بِإحْسانٍ إلى يَوْمِ الًدِين...
وأصلي وأسلم على رسول الله صلاة نحققُ بها أمر ربنا حيث أنه قال:(إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب :56] .. فاللهم صل على مُحَمًدٍ النًبي، وأزواجِه أمهات المؤمنين ، وذريته وآل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد..
فأنت عبد الله، إذا قل في محيطك وواقعك، في السوق، إن قل صنف من القوت انشغلت بذلك، وتبحث كثيرًا عنه حتى تجده، الأطعمة غير متواجدة، الأسعار ارتفعت، ويشغلك ذلك، ويصبيك الهم، وتجعل ذلك من عظيم الكرب، وتسأل ما هو السبيل؟ والراتب الشهري لا يكفى، فتلك المشغلة نوع من الاهتمام بالمعايش، ونوع من الاهتمام بأمور ضرورية، والانشغال بها وارد، وإصابة العبد بالهم بها وارد، فيقال لك: ما بك يا فلان مهمومًا؟ فتقول: المصاريف، الأولاد، قلة المعيشة، عدم توافر الأطعمة الضرورية، وعدم توافر الدواء، ومرض أمي، أو مرض أبي.. فهذا وارد.. فأصابتك بالهم في هذا المقام وارد.. لأن هذه قوام معايش، وهي أمور تصبيك بالهم، فإن اهتممت بها فذلك ليس معرة، وليست فضيحة، ولا معيبة فيك، بل نوع من تحمل المسئولية .. والانشغال بحاجات ضرورية.. لكنً هنا السؤال بناءً على هذا المعنى وبناءً على هذا التقدير، هل أنت عندما يفقد أمر من الدين، أو تجهل أمرًا من الدين، أو لا تجد سبيلًا لإقامة الدين في نفسك وأهلك وولدك، فهل يصيبك نفس الهم؟؟ إن أصابك نفس الهم فأنت مخطئ .. لأن هذا معناه: أنك سويت بين أمر الدين، وبين أمر الدنيا.. وأنت مطالب بأن يكون الدين أكبر الهم ومبلغ العلم.. وأنت مطالب إن أصابك الهم في الدنيا قدر، أن يصيبك الهم في الدين مائة قدر.. فعندما يكون وجود أزمة في القوت فيصبيك هم، فهذا منطقي وهذا مسلك الأسوياء، ولكن إن كانت هناك أزمة في الدين. ولم يصيبك هم، فاعلم أن باطن الأرض أولى بك من ظهرها.. لأنك قلبت الأمر على رأسه. .وجعلت ما يساوي درهم كمن يساوي ألف درهم، وجعلت ما ينبغي أن يكون كل همك فيه، جعلته بلا هم، فإذا سويت بين هم الدين وهم الدنيا تكون مخطئًا .. فكيف بالله عليك؟؟ .. وأنا أقول لك ذلك من حبي لك، ومن حرصي على النصح لماذا؟ .. ففي الحديث عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألَا إنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ ألَا إنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ ألَا إنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ ) " قالوا: لِمَن يا رسولَ اللهِ ؟ قال: (للهِ ولكتابِه ولرسولِه ولأئمَّةِ المسلِمينَ وعامَّتِهم) [صحيح ابن حبان: 4575].
ولا بد أن تعلم أن هذا المقام، وهو مقام التذكير في موعظة الجمعة، إنما هو للنصح في الدين، وللنصح في الله، من باب التذكير عما غفلنا عنه، من باب التنبيه على حمل هم الدين، حمل هم دينك أنت لتخرج من الدنيا به، فتلاقي ربك عليه، فتفوز عند الله، أنه من أتى الله عز وجل مؤمنًا، سيكون له الخير، ومن أتى ربه (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) [طه:74] .. أسأل الله أن يعافيني وإياكم من ذلك.. فتنبه!!فينبغي إن نقص الدينُ عندك فاهتممت وانشغلت في تعلمك، وفي إقامة القضية، وفي تعلمها وتدبرها، وإقامة مقتضاها، فإن ذلك ينبغي أن يصبيك بالهم ثم الهم ثم الهم، من باب أن هذا أعلى من هذا، وأن هذا أوجب من هذا، وأن هذا أهم من هذا، فمن كانت الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، شتت الله شمله وفرق الله عليه أمره، ومن كان الدين أكبر همه، ومبلغ علمه جمع الله أمره، وقضى له حاجته فتنبه لماذا؟؟ .. عندما تقوم بما أوجبه الله عليك أحبك.. وعندما تضيع ما أوجبه الله عليك مقتك.. وهل أنت تتحمل أن يمقتك الله ؟ .. وكيف الطريق إلى أن يحبك الله.. أسأل الله أن يرزقني وإياكم محبته، هذه المحبة لا تأتي إلا من طريق واحد.. وهو طريق أن يكون الدين أكبر الهم ومبلغ العم.. فالله عز وجل أمر نبيه أن يخبر عباده(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31] ..فأي واحد منكم يسمعني الآن، أو حتى بعد الآن .. إن أراد أن يسألني الآن .. أتريد أن يحبك الله؟ .. ولا أسألك هل أنت تحب الله أم لا؟ .. ولكن السؤال هل تريد أن يحبك الله؟ فالجميع سيجيب بنعم وإن كان من غير المسلمين.. فالجميع يتمنى ذلك, فهذا هو الطريق(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تحقق لك الأمنية التي هي يا ليت(يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهذا هو طريق محبته، فإن أطعتهُ.. (فَاتَّبِعُونِي) فالنبي صلى الله عليه وسلم ظل يربي أصحابه في مكة ثلاثة عشر عامًا على التوحيد.. يعلمهم الإيمان بالله والكفر بالطاغوت، ويعلمهم الولاء لله ومن والى، والبراء ممن برأ الله منه.. يعلمهم كيف يقيمون حق الله في أنفسهم قلبًا قبل اللسان والجوارح، يعلمهم كيف يكونوا لله عابدين..( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) [الزمر:11]..لأن الله أمره بذلك..
إذًا فالمسألة التي أشرت إليها حتى أختم كلامي، بفائدة: أننا لم نؤمر بتوحيد الربوبية أمرًا مباشرًا في القرآن، ولم نؤمر بتوحيد الأسماء والصفات أمرًا مباشرًا في القرآن، ولكننا أمرنا بتوحيد الإلهية(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) [البقرة:163]تنبه!!( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الأنعام:102] .. وهذه الآية من الآيات التي تبرز القضية التي أشرت إليها قبل ذلك، وهي: أن كل من آمن بالله ربًا، وحقق ذلك في قلبه، واستقام على التوحيد، الذي هو توحيد الربوبية، كان ذلك ملزمًا، دافعًا، إلى أن يوحد الله في عبادته. وتوحيد الله في عبادته أي توحيد الله في إلهيته(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) والمعنى: أن يجعل له حقًا وحده، في أن تعبدوه (فَاعْبُدُوهُ) هذا حقه، ففي الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كُنْتُ رديفَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما بيني وبينه إلَّا مُؤخِرةُ الرَّحلِ فقال: ( يا معاذُ ) قُلْتُ: لبَّيْكَ يا رسولَ اللهِ وسعدَيْك قال: ثمَّ سار ساعةً ثمَّ قال: ( يا معاذُ قُلْتُ: لبَّيْكَ يا رسولَ اللهِ وسعدَيْكَ قال: ( هل تدري ما حقُّ اللهِ على العبادِ ؟ ) قُلْتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ قال: ( أنْ يعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا ) قال: ثمَّ سار ساعةً ثمَّ قال: ( هل تدري ما حقُّ العبادِ على اللهِ إذا فعَلوا ذلك ) ؟ قُلْتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ قال: ( فإنَّ حقَّ العبادِ على اللهِ إذا فعَلوا ذلك ألَّا يُعذِّبَهم)[صحيح ابن حبان:362].
تساوي أن يفردوه بالإلهية، تساوي أن يحققوا توحيد الإلهية، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أي يعبدوه وحده، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا،إذًا حقه علينا أن نعبده (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) ..
فإذًا فهذه هى القضية التي أُمرنا بها، ولذلك أنت في كل صلاتك تقول في سورة الفاتحة..(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)..والمعني: لك الحمد ولها تفصيل ليس هذا محله، لأنك (رَبِّ الْعَالَمِينَ)، لأنك (الرَّحْمَن)، لأنك(الرَّحِيمِ) فنحن نعلم عن ربنا أنه (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أنه(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)أنه (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) .. بناءً على هذا المعلوم، وبناءً على هذا المفهوم وهذا التوحيد، وهذه الربوبية، إِيَّاكَ نَعْبُدُ .. ولمًا كنًا لا نستقيم على حق، ولا نبرأُ من باطل، إلا بإعانته، اللهم لولا أنت ما اهتدينا. ولا تصدقنا ولا صلينا، فلما كان الآمر كذلك (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) كأنك تقول(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)أنت رب العالمين(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فهذا حقك، بناءً على أنك الرب، بناءً على (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لا يعبد إلا هو.. ولذلك لم يقل سبحانه نعبد إيًاك.. بل قال(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) .. وهذه الصيغية تعني لا نعبد إلا أنت(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لأننا لا نستطيع أن نحقق المطلوب الشرعي إلا بإعانتك، فلا يهدي أحدٌ سواه، ولا يُهْدَى أحدٌ إلا منه..
تنبه..إذًا توحيد الإلهية الذي سنتعرض لمعانيه، وتفصيل ما يتعلق بمقتضاه، لابد أن نعلم أنه هو القضية المرجوة، ولذلك خصومة الأنبياء جميعًا مع أقوامهم فى ماذا؟؟ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فهذه هي القضية الفاصلة، قد يعلموهم أن لا يفعلوا فعل قوم لوط، قد يعلموهم أن لا يخسروا الميزان، قد يعلموهم أن لا يكذبوا، قد يعلموهم أن يكونوا من المقسطين، ولكن الخصومة والقضية الأصلية، القضية التي ينبغي أن تشغل كل عبد هي: (والى عاد اخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره افلا تتقون)...
عباد الله فهذا الكلام يلزمنا، أن كنا نعرفه، وإن كنا نعلمه، فينبغي أن نرعاه كالشجرة التي تروى حتى تظل خضراء، فلا يتحول ورقها إلى أصفر فيسقط، وتذبل الشجرة فتنخلع، لأن الله شبه الدين الذي هو التوحيد، وليس الصلاة والزكاة والحج، علمًا بأن الصلاة عماد الدين، والزكاة عظيم الطاعات، والصيام هو الصبر الذي يبلغ العبد الرضا، والحج إذا آتاه العبد مبرورًا فيرجع منه كيوم ولدته أمه، كل ذلك لا يكون إلا على قاعدة التوحيد، فمن ضيع ذلك فليس له دين، وإن صلى وصام، وزعم أنه مؤمن، فتنبه وتدبر ذلك جيدًا إن أي طاعة من الطاعات لا تقوم إلا على هذا، فمثل الله لنا الدين، الذي هو التوحيد، الذي هو لا إله إلا الله بالشجرة فقال(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) فهذا مثال للدين الصالح، للتوحيد الذي زُرِعَ في القلب والذي يرعاه صاحبه، ويرويه بالعلم والعمل الصالح، فتجد الشجرة تكبر يوم بعد يوم، ويمتد فرعها إلى السماء(تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [ابراهيم:24] .. والشجرة الأخرى التي لا يرعاها صاحبها، والتي يتركها، والتي يهتم بالدنيا فتكون أكبر الهم ومبلغ العلم(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [إبراهيم:26] والخبيثة: هنا ليس معناها أنها كلمة سب أو طعن، إنما كلمة يقولها صاحبها، ولكنه لا يقيم مقتضاها، فتكون خبيثة، تكون كذب، ألم تسمع قول الله تعالى(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِن الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون:1] .. أي واحد يقول: محمدٌ رسول الله، والله يقول: هو كاذب!! كيف يكون كاذبًا ومحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله حقًا؟؟ ..لأنه كاذب في مضمونها، كاذب في العمل بها، كاذب في القيام بمقتضاها، كاذب بأن تكون صدقًا من قلبه، وليست كلمة(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)...
ارعوا شجرتكم قبل أن يأتيكم الموت..
أسأل الله أن يأتينا الموت ونحن من الموحدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعلنا من الموحدين، اللهم أحيينا على التوحيد، وأمتنا عليه، واحشرنا بين يديك عليه، وارزقنا ما وعدت من الأجر عليه، اللهم إنا نبرأ إليك من الشرك صغيره وكبيره، قليله وكثيره، نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه، اللهم يا رب اجعل خير أيامنا يوم لقائك، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، اللهم لا تمتنا إلا وأنت راضٍ عنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا، اللهم أحسن خاتمتنا، اللهم يا رب لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، اللهم يا رب انجِ عبادك الموحدين في مشارق الأرض ومغاربها، وانصر الموحدين أينما كانوا يا رب العالمين، اللهم يا رب اهدنا، واهدي بنا واجعلنا سببًا لمن اهتدى, اللهم تقبل سعينا، وأجرنا عليه ما آجرت عبدًا على مثله، اللهم ارض عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنًار، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، ورد الظلم عن المظلومين، ورد عليا ولدي سالمًا غانمًا يا رب العالمين، وصل اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك...
وفرغه وكتبه: فاطمة عبد اللطيف...
صححه وضبطه ودققه:
د / سيد العربى...