ما معنى: " شَهِدَ الله "... من أخطر الخطب
خطبة الجمعة : للدكتور سيد العربي..
الجمعة : 23 - 9 - 2016
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده، ورسوله، وصفيه من خلقه، وخليله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى من تبع هداه بإحسان إلى يوم الدين...
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" .. [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.[النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
وبعد،
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلامُ اللهِ تعالى، وإنَّ خيرَ الهَديِ هَدْيُ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بِدعة، وكلَّ بِدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ فى النّار. أما بعدُ،
عباد الله...
إن كلمة لا إله إلا الله, التي هي عنوان الدين, والتي هي عنوان الملة, ليست مجرد كلمة, بل هي شهادة... وهذه الشهادة قبل أن نتكلم فيما يتعلق بمعناها في مقالات أُخَرْ, فلا بد أن نقف على مَنْ شَهِدَ بهذه الشهادة؟؟ ..لأن قيمة الشهادة بقيمة الشاهد..
فإذا قيل: إن فلان هو من أعلم النًاس, فيقال: وإن من شَهِدَ بذلك فلان أعلم الأرض, فتعتبر مثل هذه الشهادة عظيمة عالية لماذا؟ لأن قد شَهِدَ بها عالي القَدْر, رفيع المقام.. فإنه إذا شهد شهادة حتى وإن كانت حق, فإن عِظَمَها يكون من عدة محاور منها:
•أعلاها وأهمها مَنْ شَهِدَ بهذه الشهادة؟؟ وهيا نتعلم من القرآن مَنْ هو الذي شَهِدَ بهذه الشهادة أوْ مَنْ هم الذين شهدوا؟ يقول الله تعالى" شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ..." ..[أل عمران آية18] ..فهذه آية وطرف من آية, ثم أردف سبحانه بقوله:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ "[أل عمران آية19] .. وهيا نتعلم من هذه الآية قضايا .. من أهم القضايا .. فيما يتعلق بقيمة لا إله إلا الله, وحقيقتها, وأنها أعظم شهادة في الكون, من خلال مقتضاها, ومن قبل ذلك مَنْ شَهِدَ بها..
ما معنى شَهِدَ؟ فعل من مصدر الشهادة أوْ مَنْطُوقُه والشهادة لها أركان:
• شاهد: وهو الذي سَيُقِر أو يُخْبَرْ.
• مشهود به: وهو الذي عاينه, وحضره, ورآه, وعَلِمَه.
• شهادة: إقرار وإخبار.
ولذلك: يُطْلَقْ لفظ الشهادة على الحضور، تقول فلان شاهِد وفلان غائب, فلان شَهِدَ هذا الموقف, وفلان غاب عنه, ويكون المعنى هنا أي فلان حضر وفلان غاب..
ومن معنى الشهادة
• الإقرار.. ولكنه إقرار عن حضور وعِلم.
• الحُكْم.. فتقول: هذا أمر قد شَهِدَ به الحق, أي حَكَمَ به الحَقً...
فالمهم أن تَعْلَمْ أن الشهادة ليست مجرد تَكَلْم بكلام.. ومن هذا المنطلق لماذا جُعِلَ عند الشهادة أن يكونَ رجلٌ أو امرأتين؟؟ هل لأن المرأة مطعون فيها؟ أو قليل شأنها؟ لا..
حتى أن المعترض عندما يعلم أن الله سبحانه أَمَرَ بأخذ بشهادة رجل أو امرأتين, يقول: إن ذلك تنقيص في حق المرأة, وكيف يُسَوًى بين شهادة رجل عامي, أميً, جاهل, وبين شهادة امرأتين قد تكونا عالمتين مثقفتين؟؟!!
وغفل من يعترض بذلك عن أمور:
• أن الشهادة ليست فيها نشاط عقلي.
• وليست من القدرات الذهنية..
• وليست من منتوج الثقافة العلمية.
إنما هي إقرار بحقيقية حضرها الشاهد, فإن أتيت بأعلم النساء علمًا, وأثقف النساء ثقافة, فإنها كامرأة يمكن أن تنسى, أو يختلط عليها الأمر, أو عند حضور الأمر الذي ستشهد به, قد لا تتجرأ تجرأ الرجل في معرفة الدقائق, فعندئذ تكون القدرات في الشهادة مستوية بين الخلق, تقل عند المرأة درجة, وثبتت عند الرجل بعلو درجة, فيما يتعلق بماذا؟ هل بثقافة, أم بعلم, أم بفقهٍ أم بفهم؟؟ فليست الشهادة متعلقة بشيء من ذلك, هل حَضْرت؟ نعم حضْرت..اشهد,, وهل أنت حضْرت؟ لم أحضْر, لا لم تشهد...
فإذا قال من لم يحضر أنا أعلم النًاس, قيل له: ليس لك دور لأن الشهادة تقتضي الحضور والمعاينة..
إذن فتقديم شهادة رجل على امرأتين ليست طعنًا في المرأتين حتى وإن كانتا أعلم النساء أو أفقههم, إنما هو: إثبات للقدرات المُكَوَن منها الإنس, سواء كان الرجل أَذْكَرُ من المرأة, ولذلك قال " وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا"..[ البقرة آية 282] ..وليس من باب هي أقل, هي أجهل, فليس هذا تقليل لشأن المرأة, ولكنه الجهل, ولكنها شهوة الطعن في الدين, بحيث يُعْتَرَضْ على أي شيء في الدين..
فالمهم هو: أن تعلم ما معنى شَهِدَ: أي أنه حضر حضورًا, وقد علم علمًا يقتضي البيان الكامل, ولذلك يُسَمَى الشاهد أمام القاضي الذي يفصل في الخصومة بالشاهد لماذا؟ لأنه عنده بيان بالأمر الذي يترتب عليه معرفة الحقيقة, وقد يكون الشاهد هذا أقل النًاس مكانة في الناس, وقد يكون المشهود عليه من أعلى النًاس..
فعندما يقول له القاضي : قل والله العظيم أقول الحقً.. فهو من باب:
• إما أنه قد حضر فَعَلِمَ, فيبين أي يشهد.
• وإما أن يكون لم يحضر فعندئذ يخترع قولًا فإذا اخترع قولًا مهمًا كان منظومًا فهو كاذب.
إذن فالشهادة لا تكون شهادة, إلا عن عِلْمٍ وحضور, يترتب على ذلك, إقرار وبيان, فهل يقول الله تعالى لا إله لا أنا, لا.. أخبر الله أنه لا إله إلا أنا, لا.. بل قال " شَهِدَ اللَّهُ "
فمن الشاهد؟ الشاهد هو الله سبحانه وهذه الآية فيها إعجاز:
أن ذَكَرَ الله تعالى شهادة نفسه وشهادة الملائكة وشهادة أولي العلم.
أمًا شهادة نفسه: فهي شهادة الذات على الذات أي أن الله سبحانه يقول: أنا أشهد على نفسي, وأَشْهَدُ لذاتي
" إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي"..[ طه آية14]
وهنا مسألة من أخطر المسائل, طعنًا في قول الملحدين, المنكرين لوجود الله, الذين يَدًعُونَ أنه لا إله أصلًا. وهي أن هناك من له الشأن العظيم, سواء اعترف به أو لم يَعْتَرِفْ, ودلالة عظم شأنه يشهد بها الكون .. في كل شيء آية تدل على أنه الواحد الأحد الفرد الصمد, النظم الكوني والخَلْق الإبداعي, وتسيير الكون وتدبيره بلا اختلاط ولا خطأ, ولا تداخل إلى غير ذلك من الأمور الدالة على ربوبيته, من حيث الملك, والسيطرة, والتصرف...
وهناك قاعدة : مَنْ ادعى أمرًا فلم يُنازَع فيه ثَبَتَ له...
يُضْرَب لذلك مثال: رجل جمع قومًا عنده لِمَكْرَمَة ثم لمًا انصرفوا وَجَدَ حافظة مال فيها مالٍ كثير, فاتصل بمعظمهم, أو بكلهم إلا واحد, هل نسيت شيء؟ هل فقدت من متعاك شيء؟ فقال كل واحد منهم: لا.. ثم جاء رجل منهم لم يكن سأله فادعى أنها له.. فيقال: هي له يقينًا.. لأنه ادعى أمرًا لم يُنازَع ممن هو مَظَنْة أن يكون مثله فيه. فمن ادعى أمرًا لم يُنازَع فيه ثَبَتَ له..
ونحن نقول لأهل الإلحاد وأهل الشرك خاصةً الذين يرَوْن أن الكون له إلهين أو ثلاثة, من أبٍ, وروح, وقدس, نقول لهم: لو أن الإله الذي " شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ" تعالى إلي قيمة عظيمة في هذه الشهادة, فقد أعلم الله سبحانه بشهادته التي تدل على علمه بذلك, العلم الذي لا يتخلف عنه معلوم.. والذي تدل على حضوره وأنه عَلَمِ ذلك عِلْمًا لا يُنازَع, فأعلن في الكون كله ولجميع خلقه في كل حالً وفي كل زمان, وفي كل شأن " أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ"
أين الإلهة الأخرى!!؟؟ فإن كان هناك إله آخر لقال: أنا أيضًا إله الكون, ولكنه لم يُعْلَمْ منازع, فقد يَفْتَرِضُ بعد الخلق كفرَا وكذبًا وزورًا أن لله شريك, لكن هل هناك هُبَلْ, ولا اللات, ولا الشمس, ولا القمر, ولا أيٍ مِمًنْ عُبِدْ؟ قال: أنا لا إله إلا أنا.. فتنازع الإلهان, لم يحدث, بل إن الله يقول: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ }[الأنبياء: 22] .. بل إن الله يقول { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [المؤمنون: 91].. فلم نسمع من يقول أنه الإله فدل ذلك على وحدانيته, ادعى أمرًا فلم ينازع فيه فثبت له...
فإن قال قائل: هناك إله قد لا يعلم أنه قد نزعة الإلهية!! نقول: إن الإله الغافل الذي لا يعلم ما يجري حوله, فلا يستحق أن يكون إلهًا، فإذا قال: ولكنه أقوى منه, فلم يستطع أن يصرح بما عنده, كان ذلك دليلًا أكبر على أنه لا يصح أن يكون إلها, كما قال{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } [الإسراء: 42].. لو أن هناك إلهة, ولو أن هناك موجودات تعتبر أما كون بعض النًاس يفتئتون أو يدًعون ظلمًا, فهذا وارد من يوم أن خلق الله الخلق, من زمن نوح عليه السلام.. أول زمن انتشار الشرك في الأرض..
إذن شهادة الله .." شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " فهذه شهادة حقٍ شهادة الذات للذات, شهادة ما أعلها من شهادة لعلو مَنْ شهَدَ بها, قلنا: إن علو الشهادة من علو الشاهد, ومَنْ الشاهد هنا؟؟ الله سبحانه وهو من شهد بذلك, ثم خلق الملائكة في عالم الغيب, الذين قد عُلِمَ بأنهم " لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ" ..[ الأنبياء آية رقم27] ..الذين عُلٍمَ بأنهم يذكرون الليل والنهار, الذين عُلٍمَ بأنهم نورانيون شهدوا أيضًا, وهذه الشهادة الأخرى ..
من إعجاز الآية التي ذكرت لكم تسمى: شهادة المعاينة, أو الحضور..
•الشهادة الأولى شهادة الذات على الذات, وسبق معرفة ما فيها..
•الشهادة الثانية شهادة الحضور: أي أنهم حضور المشهد, فلم يجدوا إلهين, ولم يجدوا ثلاثة, ولم يجدوا أربعة, بل وجدوا إلهًا واحدًا فشهدوا, فقالوا: " لا إله إلا الله ", لا إله إلا هو. بناء على ماذا؟ بناء على ما عاينوا, بناء على ما حضروا ... فى الحصرة الالهية..
•الشهادة الثالثة شهادة أولو العلم: وهذه تسمى شهادة الأدلة, لأنهم ليسوا في حضرة الرب جل وعلا, ولكنهم نظروا فيما نثر الله من أدلة في كونه تدل على أن لا إله إلا هو, فجمعوها ونظروا فيها, ونقحوها, وبحثوا في مناطتها’ فوصلوا من خلال دلالة بينة لا مُعارِضَ لها, وحقيقة قامت بها عليها الأدلة البينة التي لا تُعارَض بأنه " أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ" ....
فاجتمع عندنا شهادة الذات على الذات واجتمع عندنا شهادة الحضور والمشاهدة, واجتمع عندنا شهادة الدلالة وأولو العلم, وأولو العلم مَنْ أولهم؟ الأنبياء, ثم ورثتهم, يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ "..[ صحيح البخارى (1/ 130)] ... فإذن من الذي شهد بالعلم؟ من الذي شهد بالأدلة؟ من الذي شهد بالاستنباط مما بسط الله في كونه؟ بسط الله في الكون أدلة, وأنزل في الكتاب أدلة, وقال النبي صلى الله عليه وسلم أدلة, فاجتمعت عندهم أدلة كونية, وأدلة سمعية, التي هي الأدلة الشرعية من الكتاب والسُنًة, فقادهم ذلك إلى اليقين الجازم فشهدوا.. شهدوا أم أخبروا؟؟ .. شهدوا.. شهدوا أم أقروا؟ شهدوا.. بمعنى: أنهم علموا علمًا كما لو كانوا حاضري المشهد, بلغ من اليقين كالذي يُرى بالعين, لأن البصيرة تورث اليقين..
البصيرة: هي أن يصير المعلوم إلى القلب كالمبصور إلى العين, فصار عندهم علمٌ يقيني كحضور المشهد فشهدوا بذلك وأقروا, إقرارًا يبين الحقيقة كما يشهد الشاهد الحق الصادق عند القاضي..
ولذلك يقولون الفارق بين الشاهد والكاذب: أن الشاهد مهما تعدد عليه السؤال, ومهما حُوِرَ بحوار يختلف في كل مرة في الحدث الذي يشهد به لم يتغير قوله لماذا؟؟ لأن الشهادة ليست صناعة عقلية... كما سبق بيانه في مثال الرجل والمرأتين .. لانه لم يفكر ماذا يقول أبدًا, فهي إقرار بما عاينته .. وإذا ما عاين العبد بصدق وسُئل مرة, واثنان, وثلاثة, ومائة, ومائتان, فلم يتغير قوله, ولم يتغير جوابه لماذا؟ لأنه يقول بناءًا على ما رأى, سواء رؤيا عين أو رؤيا قلب..
فنحن عندما نشهد بأن " لا إله إلا الله ", لا بد أن نستحضر عِظَمَ هذه الشهادة, حتى نعلم أننا صرنا نسير فيها كالببغاءات, فنكرر " لا إله إلا الله " ولا نقيم لها وزنًا, ولا نعلم لها مقتضى, ولا نفهم لها معانٍ, أو كثير منًا كذلك إلا من رحم الله ... أسأل الله أن يجعلني وإياكم في المرحومين .. فإذا ما علمت أن أول من شهد بها لذاته, لنفسه سبحانه
, وشهادة الله عند المؤمنين بينة القدر لأنهم يعرفون من الله, ولغير المؤمنين تحدٍ، فالله عندما يشهد لذاته فكأنه يقول لكل الكون من غير المؤمنين إن كان هناك ألهةً أخرى فلتنتصر, فلتعلن, فلتشهد, فإني أشهد متحديًا كل من يدعي, ولم يقم أحد من يوم أن سمع السامع ونطق الناطق, أن هناك إله ينازع رب العالمين منازعةً حقيقية...
فقد يكون ادعاء من كذابين وأفاكين, قد يكون هناك ادعاء من مشركين، وقد يكون هناك ادعاء من منافقين وكافرين كل هؤلاء.." مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"..[ يوسف: آية42] .. كلام فقط كالذي رسم أسدًا على الورقة, فهل سيصير له زئير؟؟ وهل سيفترس من يقترب منه؟ .. بل ما هو إلا رسم, وما هو إلا اسم, ما هو إلا وسم,لا قيمة له ولا حقيقة.. تعالى الله سبحانه على الند والشريك والمثيل .. فإذن هي شهادة عند المؤمنين معلومة القدر, لأن عظم الشهادة بعظم من شهد, فإما لغير المؤمنين فهي تحدٍ وإثبات لوحدانيته, وتدليل على حقيقة أمره, فالله حق, وكونه واحد أحد حق, ولا ينازعه في ذلك أحد.." شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " .. أي وشهد الملائكة, يسمى على تكرار العامل, وأولو العلم شهادة ذات, شهادة حضور ومشاهدة, شهادة دلالة واستدلال, " قَائِمًا بِالْقِسْطِ " فالذي يشهد لنفسه ما شأنه؟ " قَائِمًا بِالْقِسْطِ " .. شهادته قائم بالقسط في نفسه وذاته, " قَائِمًا بِالْقِسْطِ " في خلقه, فخلق خلقًا سويا.. " ثمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى "..[القيامة:آية38] " قَائِمًا بِالْقِسْطِ " في تكليفه, فلم يُكَلِفُ تكليفًا يعارض تكليف, ولم يكلف تكليفًا فيه ظلم, ولم يكلف تكليفًا فيه عدم قدرة, لا يُقْدَر عليه, بل " قَائِمًا بِالْقِسْطِ " قائمًا بالعدل, في خلقه, في تكليفه, فيما أثبته لنفسه, وفيما طلبه من خلقهٌ " قَائِمًا بِالْقِسْطِ " ..." أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ" تكرار للحقيقة المشهود بها, حتى يُعْلَم أن هذه الحقيقة, هل هي شهادة أم كلمة فقط؟ وهل هي شهادة أم عبارة؟ هي شهادة بمعنى: أنها لا تكون إلا من معاين, إلا من حاضر, إلا ممن شَهِدْ, أشهدت فاشهد, أرأيت فاشهد, أحَضْرت فاشهد.. أما أن تكون لم تر .. ولم تحضر, ثم تشهد! فما هو إلا لغو, وقد تكون شهادة حق لكن الناطق بها يلغو, لأنه لم ير, فإذا قُتَلَ قتيل فرآه بعض النًاس, ورأى التفاصيل بعض النًاس , فإذا ما تكلم من لم يكن حاضرًا وقال: ربما حدث كذا, كذا, فهذا لغو, ليس لأن الأمر ليس حقيقي؟ بل الأمر حقيقي وقُتِلَ القتيل, ولكن لأنه لم يحضر ولم ير, ولم يعلم فكان كلامه عن غير علم, عن غير حضور, عن غير مشاهدة...
وأنت مطالب مع " لا إله إلا الله " .. أن تؤديها أن تنطق بها, أن تقر بها عن شهادة وليس من باب الخبر أو الكلام, أو اللغو حتى لاتكون من أهل اللغو, ومن أهل عدم حقوقها, ومن أهل عدم فهمها, خاصة ونحن في زمن الجهل, وزمن تبديل الدين, وتبديل خطاب الدين, الذي سيجعلون فيه أن احتمال من اثنين أو ثلاثة, لكنها كانت قضية غائبة دون مناقشة, لكن نحن من جهابذة العمم, والتي كثيرًا منها لا تكون على أسوياء, قد يتكلمون من باب الخطاب الديني قد اُكْتُشِف أن الله اثنان, أو ثلاثة, أو غير ذلك. فلا تتعجب فأنت في زمن العجائب وخاصة فيما يتعلق بأمر الدين...
كما أنك مطالب أن تحافظ على دينك, وأن تحفظ هذه الشهادة في قلبك, وأن يكون منطوق لسانك بناء على حضور قلبك, ومشاهدته ومعاينته, " شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " ...
أوضحها بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله تعالى
الخطبة الثانية...
الحمد لله وكفى وسلاما على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى من تبع هداه بإحسان إلى يوم الدين...
وأصلي وأسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة نحقق بها أمر ربنا حيث أنه قال النبي , " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا "..[سورة الأحزاب آية56] .. فاللهم صل على محمد النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد..
اعلم عبد الله:
أن الله عز وجل ما شهد بهذه الشهادة, إلا لِيُنْزَلها منزلتها, عند كل من أمرهم بها, حتى إذا علم كل من آمن بالشهادة قبل أن يشهد بها هو, وقبل أن يشهد بها أولو العلم, وقبل أن يشهد بها الملائكة, وهم شهداء قسط, وشهداء عدل, وشهداء حق, فالملائكة لا تكذب, ولا تحابي, ولا تتفق على باطل, وأولو العلم أيضًا فلن يكونوا أهل علم إذا كذبوا, ولم يكونوا أهل علم إذا ضلوا, بل لا يُنْسَبُ الإنسان إلى العلم على سبيل الحمد والثناء .. إلا إذا كان ممن يشهد بالحق وهو يعلم, قبل أن يشهد أولو العلم والملائكة وقبل أن تشهد أنت, شهد بذلك الملك الحق المبين .. جل في علاه, فهذا يعني أن هذه الشهادة عظيمة الشأن, لأن هذه الشهادة هي أحق حق في الكون, وهذه الشهادة ليست ادعاء.. وكما قلت في مقالات أخر.. ليست اتفاق بين الخلق وخلاقهم, أفردوني, وحدوني, قولوا لا إله إلا الله لي, لا.. بل هي حقيقة ولو أنكرها العالمين, بل هي حقيقة وإن كفر بها الإنس والجن أجمعين, فهي حقيقة دامغة, فنحن نرى من يكفر, ونرى من يفسق, ونرى من ينافق, ونرى من يعلي الباطل وينافح عنه، ونرى, ونرى, فهل هذا يغير من هذه الحقيقة؟ لا والله .. " شهد الله " وليس بعد شهادته شهادة, وما جمع الله بين أهل العلم والملائكة إلا لفضل أهل العلم, وهذه الآية فيها إبراز لقيمة أهل العلم, حيث جمع بينهم وبين الملائكة, وجمع بين الملائكة وأولو العلم بذاته سبحانه في هذه الشهادة, التي هي موطن تزكية وإثبات لحق, وإعلاء لحق..
ونحن نعلم أن العلماء لهم مقام رفيع في الدين " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير" ..[المجادلة:آية11] .. فقد جعل أولو العلم أعلى من المؤمنين, أو على الأصح صفوة المؤمنين, فأولو الإيمان مرفوعون والمرفوعون من المرفوعين أولو العلم, ويكفيك أن النًبِي صَلَى الله عيه وسلم قال: "إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ" .. إذن فالعالم وريث خير موروث, الأنبياء صلوات الله عليهم, ويكفي أهل العلم شرف هذه الآية, التي جمعت بينهم وبين الملائكة, وجمعت بينهم وبين الملائكة وذات الله عز وجل, في الشهادة وليس في المقام ولا المكانة, بل في الشهادة فهذا قدر رفيع ناله أهل العلم " شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ".. العزيز: الذي لا يغالب, فأنت ترى أنه يقول : " لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار"..[ غافر:آية16] ..فقد يقول قائل: لم يقع ذلك, ولكن اعلم كل ما هو كائن واقع, في حق الله عز وجل كل ما سيكون هو.. هو سواء بما كان, لأن شأن الله لا يتبدل ولا يتغير, جل في علاه, فهو لا يغالب, وأول دليل على أنه لا يغالب شهادته التي لم ينازع فيها ولم يُكَذْب فيها, ولم يخرج من يدعي غيرها, ولا تنظر إلى جهل الجاهلين, وشرك المشركين, وافتراء المفترين, فهي أسماء وزعم باطل لا قيمة لها, لكن لم ينازع على الحقيقة أبدًا, ولم يرد له قول على الحقيقة أبدًا, سواء في الدنيا أو يوم يجمع الخلق جميعًا, لماذا أمْرُ جَمْع الخلق في الآخرة أكبر؟ لأن الله سبحانه عندما أنزل هذه الآيات كانت في زمن محدد, وكانت في أحياء محددين, أما يوم القيامة فالنداء " لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار" ..[غافر آية16] .. سيكون في جميع المخلوقين, يوم القيامة " ربنا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَاد"..[آل عمران آية9] .. سيجمع الله الأولين والآخرين, الآن وأنت تسمع كلامي هذا, فإن سمعته الدنيا كلها سيكون شريحة من الخلق, عندما نزلت الآية وكان محمد صلى الله عليه وسلم يحيى وتعلمها وعلمها, ونطق بها واستنطق بها أصحابه، كانت شريحة من الخلق فقط هم الذين يسمعونها أو ينطقونها, لكن يوم الدين, لكن يوم القيامة, لكن يوم يجمع الله الأولين والآخرين, ستكون شرائح الخلق جميعًا فإذا ما نادى فيهم, كان فيهم المتجبرون, كان فيهم الجبابرة, كان فيهم الملوك, كان فيهم المعظمون, كان الذي الذين يزعمون ويتعاظمون, وفيهم المؤمنون, وفيهم وفيهم, وفيهم, جميعًا عن بكرة أبيهم, كل نفسٍ من الأنس والجن, كل من خُلِقْ, وكُلٍف, سيقال لهم: " لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار".. لن يكون هناك منازع, وهذا دليل على هذه الشهادة على أنه لا ينازع لا في شريحة من الخلق, ولا في كل الخلق " لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" فالعزيز: هو الذي لا يغالب.. العزيز: هو الذي لا يجادل, ولا يُغْلَب على أمر" وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.."[ يوسف آية21]..
الحكيم: الذي يجعل كل شيء في موطنه, فلا اختلاف ولا تعارض, ولا شيء في محل شيء .. لأن الحكمة: هي وضع الشيء في محله, بحيث لا يكون هناك أفضل مما وُضِعَت فيه, فإن وضَعْت شيء بيدك في مكان ما, فكان هناك ما هو أدق منه وإن كان ما فعلته صواب, فليست بالحكمة, أما إذا وضعته في المكان الذي هو أحسن مكان وضعته فيه فهذه هي الحكمة, ففرق بين الصواب والحكمة, فالحكمة أعلى الصواب وأجوده, فالحكمة التي تُسَيِرَ الأمر بلا تنازع, بلا تعارض, بلا اختلاف, " لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ "..[ يس آية40] .. ولم تقم الشمس بأخذ يوم مرضي, ولم يقم القمر بعمل أجازة من عمله, وتخلف عن القيام بدوره, لا يمكن .. لم يتخلف الليل مرة من المرات وتأخر في ظهوره وطال النهار, يبحثون عن الليل لم يجدونه لماذا؟ لأن هذا الكون يدبر أمره عزيز لا يُغْلَب, حكيمٌ لا يُخطأ, فتدبر الأمور خير تدبير, آمن بها من آمن وأنكرها من أنكرها..
اعلم أن هذه الآية تعلمك قدر الشهادة التي أنت تنطقها بلسانك " لا إله إلا الله ", هل فهمت معناها, هل أنت تقيم الشهادة؟ هل تقيمها خبرًا لساني؟ أم تقيمها ذكرًا؟ أم تقيمها تسبيحة؟ التسبيحة حق, والذكر حق, والنطق باللسان حق,.. لكن ليس هذا هو المطلوب معها, بل المطلوب منها .." فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ "[ محمد آية19] .. إذن هل لا إله إلا الله كلمة؟ لا.. هل كلمة لا إله إلا الله تسبيحة؟ لا ..هل لا إله إلا الله ذكر؟ لا ولفظ ..لا .. يعني أنها ليست كذلك؟؟ لا... ولكن المقصود من حيث حقيقتها ليست كذلك, أم ماذا هي؟ قضية الوجود.. شهادة الرحمن, شهادة رب العاملين, فأنت تشهد شهادة رب العاملين, أنت تشهد شهادة الملائكة, من سبقك بالشهادة التي تشهدها أنت كعبد من عباد الله؟؟ سبقك الله سبحانه على رأس الأمر, ثم الملائكة أعلى الخلق, النورانيون, ثم أولو العلم أصفى الخلق من صفوة عباده, وهم الأنبياء وورثتهم, إذن أنت تدخل في هذا الركب, فتشهد .. لا أن تقر, .. لا تسبح .. لا تذكر, فمن قال: لا إله إلا الله على هذا المعنى نجا, لذلك في الحديث" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال لا إله إلا الله مخلصًا بها قلبه دخل الجنة" .. معنى مخلصًا له قلبه: أي شهادة, طالما ستأتي من القلب, فأنت إما تقر بالأمر عن رؤيةٍ عينية, أو أن تقر في الأمر عن رؤيةٍ قلبية, لأن الحقائق التي تقوم عليها عظيم الأدلة .. الواصل إليها كالمعاين لها, فالملائكة شهدت شهادة معاينة لم تعلم ولم تر ولم تعاين إلا إلهًا واحد, فشهدت أن لا إله إلا الله, والعلماء شهدوا شهادة حق, هل رؤوا لم يروا؟ هل عاينوا؟ لم يعاينوا..أم ماذا؟ رؤوا بقلوبهم.. ورؤية القلب هي البصيرة قد تكون أعلى من رؤيا العين لأنها قد تكون عن أدلة دامغة, استنبطت منها الحقيقة التي رآها القلب, فأيقن بها وعلمها فنطق بها...
فلذلك قد يأتي العبد في القبر, فيسأل عن لا إله إلا الله, فيكون الجواب والعياذ بالله: ها..ها .. ذهولًا عن السؤال, وذهولًا عن الإجابة, يقول: سمعت النًاس يقولون كلمة فقلتها.. إذن هذا كان أخر لا إله إلا الله عنده, تكرار لما يقوله الناس.. إذن هذا كانت لا إله إلا الله عنده, تسبيحة, يقول: لا إله إلا الله باللسان فقط, هذا آخر ما عنده, ... أما كونها شهادة تقتضي الولاء والبراء, تقتضي لا إله: أي كفر بالطاغوت, إلا الله: إيمان بالله.. تقتضي النفي والإثبات, تقتضي جعل الله إلهًا واحدًا, لا رب سواه, له الأسماء العلى, والصفات الحميدة, جل في علاه يعرف مقتضاها, ويعمل بها ويقيمها في قلبه, مخلصًا من قلبه: هذا الذي ينبغي أن نتعلمه ونقيمه .. " شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " ..أخر ما في هذه الآية إعجاز أو من ترتيب بديع, هو أن الله سبحانه أردف بعد ذلك.. " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ " .. وكأنه يقول: بناءًا أنني شهدت وشهد الملائكة وأولو العلم... فإن لا إله إلا الله, كما هو معلوم متقرر, سواء كان بالموروث أو المعلوم, أو الاستدلال, أو البيان, أو الفهم.. أن الإسلام: هو لا إله إلا الله, بها يكون العبد بها مسلمًا, وبغيرها لا يكون. فإذا ما كان هناك غير مسلم يريد الدخول في الإسلام, فماذا يراد منه؟ أن يشهد.. وليس أن يسبح, وليس أن يذكر,.. ولكن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, فإن شهد بها انتفع بها في الدنيا والآخرة, سبًح بها, أو قالها ذكرًا انتفع بها دنيا ولم ينتفع بها في الآخرة, وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم : "أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناسَ ، وفي روايةٍ : أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يقولوا : لا إله إلا اللهُ . فإذا قالوا : لا إله إلا اللهُ عَصَمُوا مِنِّى دماءَهم وأموالَهم إلا بحَقِّها . وحسابُهُم على الله"..[مسلم] ... عَصَمُوا مِنِّى دماءَهم وأموالَهم إلا بحَقِّها: هذا هو النفع الدنيوي، فإن كانوا صادقين, فسيتبعه نفع في أخروي، وإن كانوا كاذبين فلن ينفعهم ذلك في الآخرة ولذلك قال: وحسابهم على الله.. بمعنى: إن كانوا صادقين فسيحاسبهم الله حساب الصادقين, وإن كانوا كاذبين فسيعاقبهم الله عقاب الكاذبين, ولكنه قالها في الدنيا, فهل المطلوب منه أن يقولها ذكرًا في الدنيا؟ هل مطلوب منه أن تكون تسبيحة؟..لا.. بل المطلوب منه أن تكون شهادة تبعًا لشهادة الله جل في علاه, تبعًا لشهادة الملائكة, تبعًا لشهادة الأنبياء والعلماء فيسير في هذا المسار فيشهد بها شهادة. ولذلك أتبع ذلك بقوله:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ" وكأن الله يقول لعباده: لا ينبغي أن يكون لكم غير الإسلام دينًا, التي عنوانه تلك الشهادة التي شهدت بها, وشهدت بها الملائكة وشهد بها الأنبياء وأولو العلم, وإن كنتم تؤمنون وتعلمون أن الله " لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " وأن الأمور عنده بعزة وحكمة, وأنه وضع الأمور في نصابها, ومما وضعه ومما أقامه, ومما أحقه, ومما قرره, أنه " لَا إِلَهَ إِلَّا هُو"َ فهذا هو الإسلام, وبالتالي: فلا دين عنده إلا الإسلام " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ " لماذا؟ لأن الدين عند الله: هو تلك الشهادة التي شهد بها, فكأنه يقول لك: لا بد أن تقيم تلك الشهادة من خلال الإسلام, أو بالأبين إن الإسلام لا يعني مجرد أنك تصوم وتصلي..
بل إن الإسلام حقيقته وأصله وجوهره: لا إله لا الله, نفيًا وإثباتًا, كفرًا بالطاغوت وإيمانًا بالله, وحدانية الله عز وجل.. ولذلك تعلنها بلسانك بعد أن يمتلأ بها قلبك, ويدور في فلكها وجدانك, لا إله إلا الله, فتقول: أنا آمنت بالله وحده, أنا توكلت على الله وحده, أنا لجأت الله وحده, فتكون في ذلك لجوء إلى العزة والحكمة, عزة العزيز, وحكمة الحكيم, وهنا قد يعترض معترض ويقول: أليس اللاجئ إلى عدد أفضل من اللاجئ إلى واحد؟ فإذا قلت: أنا لاجئ إلى قوم فلان وبني فلان جمعيهم عشرات ومئات, أليس هذا أقوى وأفضل لك وأنفع لك من أن تكون لاجئ لفلان وحده؟
فهذا الاعتراض له وجاهة أو صوا